اتبَع قلبَك ..

0


قيلَ في الأربعين نوويّة : " اسْتَفْتِ قَلْبَكَ" ..

ويُقال من الجانب الآخر، أنّ الذين يسيرون والقلوب دليلهم هم ذلك الصنف من البشر، "العاطفي" الذي يفيض بالأحاسيس، فتعميه عن رؤية دون ما في القلب، وكثيراً من نقرأ عن الشخصية العقلانية والشخصية العاطفية باعتبارهما كضدّين، فقد صنفّت على ذلك بناء على طريقة اتخاذ القرارات، فالأولى تنبع من المنطق والأخرى من العاطفِة.

هذا ما أتفقنا عليه أنا وأنت، ومالم أقله أنا أو أنت ..تناقض العلم والديّن؟ لا يمكن!
نعم، نعم، كتب التنمية البشرية وعلم النفس..

وبما أنّي الآن أقبع في دائرة التفكير والتحليل، وخلال خمسة أيام كُنت قبلها أعيشُ في صراع بين اللٌبين ** خمسة أيام عندما بدأت في كتابة هذه المدونة، أما الآن فقد مضى على ذلك قرابة الشهر**، توصلتُ إلى ما لم أرد أن أتوصّل إليه ..

لندحر موضوع القلب من منظور الشّعر والنّثر، وأقوال الصّوفية، ولنعد تدبّر آيات المعجزة الخالدة ..

{ أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها ..}*سورة الحج


توقفت عند " قلوب يعقلون بها " ..  تساؤلات في أذهاننا تبحث عن إجابة ، يعقلون بها ؟! أهذه كناية؟ أم استعارة؟ أم إعجازً بلاغي ؟! كيف تعقل القلوب وهي لا تعقل ؟ لماذا جاءت الآيات والأحاديث تشير إلى أن القلب يعقل ويفقه، وينصلح ويفسد؟ وأنه موضع التقوى والإيمان والكفر والخبث ؟! فكثيراً ما نسمع أن القلب هو من يحب ، وهو مالك العواطف ولكن عندما نأتي لنفسر ذلك الحب أو تِلك المشاعر نقول بأن المخ هو المسؤول عن ذلك فهو من يرسل الإشارات العصبية والهرمونات، لذا فهو من يتسبب في ذلك على حد قول العلماء؟ جمعت إجابات تلك الأسئلة في بحثٍ قمتُ بتقسيمه إلى عدة فصول ، أناقش فيها ما أثار فيَّ الفضول، من أسئلة وتساؤلات، وحقائق وآراء وقصص وإحصائيات، ليس من أجل أبتدع الجديد، ولكن لأصل إلى جوابٍ مفيد، ولا يسعُ أن أطرح ما يزيد عن 50 صفحة هُنا، أضف أنّي لا أظنّك عزيزي القارئ شغوف لذلك...

عموماً، أشاركك بهذا..

بما أني شخص لا يرضى إلا بالدلائل والإثبات، اتجهت إلى مستشفى القلب التابع لمؤسسة حمد الطبيّة، قابلت الدكتور عبد العزيز الخليفي رئيس قسم جراحة القلب، ومن هنا أود أن أتقدم له بوافر الشكر على وقته، رغم أن وقتهُ قد كلفني وقتِي أيضاُ، بانتظارٍ زاد عن الساعتين في سبيل "الحصول على إجابة" ..

بدأت له بأسئلة نمطية اعتيادية كـ: ما وظيفة القلب؟ ما وظيفة الدماغ؟ ما الرابط بين العقل والدماغ، لوهله ، ظن أني أتحداه في الأسئلة J وأنا ما أردت إلا أن أثير مقدمة جيدة لبدأ الموضوع :)

· في البداية أود من الدكتور التعريف بنفسه ؟

استشاري جراحة قلب ، تخرجت من الثانوية هنا في قطر من مدرسة الدوحة الثانوية، ثم انتقلت لأمريكا لدراسة اللغة الإنجليزية ، ومن بعدها لإيرلندا لأدرس بكالوريوس طب وفي بريطانيا تدربت للجراحة العامة لمدة أربع سنوات ثم ست سنوات لدراسة القلب وأخيراً عدت إلى هنا .

· لننتقل إلى موضوعنا ، ما هي وظيفة القلب بإيجاز ؟

تنظيم الدورة الدموية من خلال ضخ الدم المحمل بالأكسجين والمواد الكيماوية التي تغذي الجسم كله والدورة الدموية تقوم بتدفئة الجسم وتوصيل الأدوية والمواد الكيماوية ، أي : ( تغذية – أكسجين – تدفئة)

· وما هي وظيفة الدماغ ؟

يقوم الدماغ بغدارة وظائف الأعضاء كلها بالاتصالات الكهربائية والهرمونية ، والتفكير وغيرها من الوظائف ...


· ما العلاقة بين كلِ من الدماغ والقلب ؟


توجد علاقة ديناميكية بين القلب والدماغ ، أي أن كل منهما يؤثر على الآخر وتوجد علاقة قوية في كل المجالات كما أن القلب يؤثر من ناحية الشعور والأحاسيس ..


· قلت بأن توجد علاقة بين القلب والدماغ ، سؤالي هنا ما الفرق بين من توقف قلبه ولا يزال دماغه يعمل وبين من توقف دماغه ومايزال قلبه يعمل ؟


طبعاً لا يمكن أن يعمل الدماغ أثناء توقف القلب، لأن الدماغ حساس جداً لكمية الأكسجين والمواد الغذائية والدم ، ولذا يمكن القول بأن الدماغ محال أن يعمل بدون القلب ، فإذا توقف لقلب لفترة ضئيلة يتلف الدماغ مباشرة ، أما القلب قد يعمل بدون الدماغ وهذا ما يسمى بالموت الدماغ ، ففي بعض الحالات يأتينا شخص قد توقف قلبه فنقوم بإنعاش لقلبه فيعود للعمل مجدداً ولكن دماغه لا يعود للعمل أبداً !


· ما الفرق بين دماغ الحيوان والإنسان وقلب الإنسان والحيوان ؟


لا يوجد فرق في قلب الإنسان والحيوان من ناحية فسيكولوجية أي من ناحية تركيب وتكوين ، أما عن الدماغ فسبحان الله قد ميّز الإنسان بالعقل رغم أن لا فرق في التشكيل لكن إذا لاحظنا يخرج جنين الحيوانات كامل ومتمم بعكس الإنسان الذي يحتاج لوقت حتى ينمو وذلك لحكمته سبحانه ، فمثلاً ابن الغزال بعد ولادته لا يلبث دقائق حتى يقف على قدميه بينما الإنسان يحتاج لوقت طويل حتى يسير . ولو لاحظنا أيضاً أن أذكى الحيوانات وهو الشمبانزي لا يتعدى ذكاؤه ذكاء طفل في الثالثة ومع ذلك يضل الطفل أذكى منه بكثير !!


· يقال بأن القلب يبث المجال الكهربائي الأقوى بين أعضاء الجسم ، فهل من المحتمل أن يسيطر القلب على الجسم بالكامل وإذا كانت دقات القلب تؤثر على الموجات التي يبثها الدماغ فهل كلما زادت عدد دقات القلب زادت الترددات التي يبثها الدماغ ؟


سؤال جيد ،وكلام سليم فدقات القلب تؤثر على موجات الدماغ ( موجات ألفا ) وبذلك بزيادة الدقات يزيد عدد الموجات التي يبثها الدماغ ، ويوجد ارتباط كهربائي بين القلب والنبض ، والقلب لديه إذا أمكننا القول مصنع كهربائي يبث أقوى مجال كهربي في الجسم كله .


· كيف يمكن أن يؤثر القلب على الدماغ ؟


مثلاً عندما تقترب من إنسان أو تلامسه أو تتحدث معه تحدث تغيرات في دقات القلب ، تنعكس على نشاطه الدماغي ، أي أن قلبك يؤثر على دماغ من أمامك ، ويمكنكم لاحقاً زيارة المختبر لملاحظة تغيرات نبض القلب .


· إذا كان مركز الكذب في منطقة الناصية فهل يعني أن المعلومات المخزنة في القلب حقيقية ، وهل يعني أن الإنسان عندما يكذب يقول عكس ما يختزنه قلبه ؟


جهاز كشف الكذب يعتمد على الجهاز اللاإرادي في الجسم مثل حرارة الجلد ودقات القلب وضغط الدم والقلب هنا يشكل عنصر هام في الموضوع ، فعندما يكذب الإنسان ينشط كما ذكرتي أعلى مقدمة الدماغ ( الناصية ) بشكل كبير ، فيضطرب ضغط الدم ويبدأ التعرق وتختلف طريقة التنفس ....إلخ وبهذا فإن المعلومات المخزنة في القلب صحيحة وصادقة بعكس ما يقوله الكاذب ، ولهذا قال تعالى : { ناصية كاذبة خاطئة } .


· إذا أتينا لموضوع زراعة القلب ، فهل صحيح بأنه عندما يوضح القلب الجديد في صدر المريض يبدأ بالنبض على الفور دون أن ينتظر الدماغ حتى يعطيه الأمر بالنبض ؟و هل هذا يعني استقلالية عمل القلب ؟


نعم كلام صحيح ، ويحدث بأقل من ثانية فكما ذكرت سابقاً يوجد ارتباط كهربائي بين القلب والنبض ، والقلب يقوم بتصنيع الكهرباء بنفسه ولذلك لا يموت حتى لو ما الدماغ ، القلب لديه طاقة ويستطيع النبض بنفسه لكن الدماغ يقوم بتنظيم النبض وهذا لا يعني أن القلب لا ينظم النبض ولكن التنظيم الأصح من الدماغ ، ويمكننا القول بأن القلب فيه من الاستقلالية ما يساوي 50 إلى 90 % ..


· هل للقلب ذاكرة ؟


نعم ، كل خلية من خلايا الجسد لها ذاكرة والقلب له ذاكرة ، فتاريخنا مكتوب في كل خلية من أجسادنا ففي كل جين ، في الأحماض الأمينية تكون الطبائع والسلوكيات مكتوبة منذ أن نخلق .


· قلت بأن للقلب ذاكرة وأن لكل خلية ذاكرة ، هل عند زراعة القلب ( نقله من شخص لآخر ) يحدث اختلاف في سلوكياته أو معتقداته ؟


نعم ، وهذا معروف جداً ، فنسمع الكثير من القصص التي تدور حول هذا الموضوع ، صحيح أنه ليس في جميع الحالات ولكن في بعضها تتغير سلوكيات المريض وتصرفاته بحيث تشبه لحد كبير جداً المتبرع بالقلب فتجد شخصاً كان يكره الطماطم مثلاً بعد عملية زراعة القلب صار يحبها بشكل كبير ، والسبب أن الشخص المتبرع كان يحبها بشكل كبير وهكذا ...، وهذا الموضع أثار جدلاً في الوسط الغربي وما زال يدرس حتى الآن .


· إذا كان الشخص يتأثر بسلوك وطبائع الشخص المتبرع ، فهل لاحظتم اختلاف أيضاً في المشاعر والأحاسيس وطريقة التفكير وغيرها ، هنا في قطر ؟


للأسف هنا لا توجد حتى الآن زراعة للقلب في قطر ، نقوم فقط بعمل مضخات وقسطرة وغيرها ..وذلك لأنه أصلاً لا يوجد متبرعين ، لكن كما قلت لكِ في بعض الحالات يتأثر وبشكل لا يصدق .


· لو افترضنا بأنه تجرى زراعة قلب هنا في قطر ، أو فلنقل في العالم العربي هل يهتمون بمتابعة نفسية المريض بعد العملية وهل يؤخذ سلوك وصفات المتبرع بعين الاعتبار ؟


في الحقيقة لا تتم متابعة حالة المريض السلوكية والنفسية بعد إجراء عملية الزرع ، أما بالنسبة لسلوك وصفات المتبرع فكما تعلمين هنا لن يقوم بالعملية إلا شخص فقد الأمل وحالته جداً حرجة ، ولهذا لا ينظر لسلوك وسيرة المتبرع ، بالنسبة لي فعندما كنت في بريطانيا يهتمون جداً بسلوك وسيرة المتبرع ، فمثلاً لم يكونوا يسمحون للشخص الذي ارتكب أكثر من جريمة وخاصة في الجرائم التي تخص النساء والأطفال بأن يتبرع بقلبه ، ولا الأشخاص الذين توجد في صفحات حياتهم نقاط سوداء كثيرة .









***






وانتقلت لقسم المختبرات وتخطيط القلب ومقابلة الفنية: سميرة إبراهيم، كانت تجربة رائعة بين الأجهزة الغريبة، وأعتذر للمريض الذي انتهكت خصوصيته، وأدعو له من أعماق قلبي أن يعود قلبه وابتسامة زوجته كما كانا.. استشعرت لحظتها الأمل والألم، وحمدته تعالى على ما أنا فيه من النّعم، ما زلت استرجع نظرات زوجته وهي تسألني الدعاء له.. ضغطت نبراتها على قلبي!


















وبعيداً عن المستشفى ...


من منطقي أنا- لا عاطفتي- التي لطالما نُعت بالمنطقية "أكثر من اللازم" و"عديمة المشاعر"،أظن أنهم قد أخطأوا حين أقروا بأن الإنسان العقلاني محتكر للتفكير من زاوية عقله فقط لا على ذلك الجزء النابض في جوانبنا اليُسرى..


في الواقع، نحن دائماً نستخدم العقل والعقل فقط .. العقل بالاستخدام القرآني الصحيح ..


لكننا لا نتبعه دائماً، وهنا يكمن الفرق ..






وهنا أدعوك لتُعيد معي بناءَ تصوراتك وأفكارك بعد قراءة مايلي :





- بعد البحث في الآياتِ المصنّفة الوارد فيها ذكر القلب، يتضح لك أن القلبَ مركز الحب والبغض، ومركز الإيمان والكفر، والخوفِ والطمأنينة، وأنه يلين ويقسو ويغفل ويصحو، و وردَ ذكرهُ 140 مرة بمعاني مختلفة ودقيقة جداً!


نصيحتي هُنا هي: أقرأ تلك الآيات وأعد تشكيل قلبك!


- إذا كُنت تظنّ بعد هذا كلّه أن الدماغ مازال هو الأساس في عملية التفكير، والتفكير المنطقي تحديداً ، فاعلم أن عدد ضربات القلب وعملية التفكير يعملان جنباً إلى جنب من أجل الوصول إلى حلول منطقية للمشكلات.*- حسب تقرير نشرته صحيفة ديلي ميل البريطانية، السبت 9 أبريل 2016-


واعلم أنّ التفكير السّليم لا يعني ضرورة غياب العاطفة، وغيابها لا يعني بالضرورة اتخاذ قرار سليم، ربّما العكس؟ ماذا عن مصطلح الذكاء العاطفي – وهو ملخّص في القدرة على فهم المشاعر وضبط وتوجيه الانفعالات- الذي لم يظهر إلا في أواخر التسعينات؟ ألا يدعم قولنا بأن العاطفة قد تكون مُرشد في السّلوك ووسيلة للنجاح في الحياة؟






يذكر كتاب Intelligent hea­rt أنّ كل نبضة ليست دفعة دماء، وإنما رسائل عصبية وهرمونية وكهرومغناطيسيّة إلى الدماغ، إذاً كل الرسائل التي يعمل بها الدماغ هي نابعة من القلب!






وهل تدري! أنّ قلبك هو من يتحكم بإدراكك لا عقلك؟ فكلما كان أداء القلب أقل، كان الإدراكُ أقل كذلك، والأشخاص الأكثر حكمة هم أصحاب القلوب الأكثر نشاطاً ونبضاً! ولو تدري، فقلبك بدايتك ونهايتك .. يخُلق القلب قبل الدماغ في الجنين، وهذه العضلة هي أب ل300 مليون خلية، يغذيّها ويرعاها!


قبضة يد!






وبعد ذا كلّه ما زلنا نثق في عقولنا ونكفرُ بآراءِ قلوبنا؟!


أليس عقلك هو الذي قادك لتخصص أو وظيفة أو زواج أو قرار ما، منصب أو جاه أو صورة كنتَ تأمل أن ترى نفسك فيها في المرآة؟، وماهي إلا أعوام حتى يكشف الستار عن العقول وتفيق القلوب وتدرك أنكَ خُدعت، لأنك ألزمت نفسك بقوانين العقل، والعقل يهوى التّحليل المعقد.. وهذا التحليل سيحوّل حياتك إلى ساعات ملل تغوص في عوالم التفكير التي لا تنتهي.. امنح فرصة أن يتصادق عقلك وقلبك.. وأن يحترم الابن والده ..


يقول اندريو ماثيو: عندما تتجاذب الأفكار وتتنافر، لا تغص في أعماق الفكر، طالما لم تكن مستعداً لذلك، العقل يرسم دائما اليأس والعمل، إلا إذا كان ذلك حقيقة الشفافية، العقل للحسابات..! وقد قال مستشار ألبانور روزفلت – السيدة الأولى في أمريكا في ما بين 1933 إلى 1945- عندما احتارت في اتخاذ قرار بين قلبها وعقلها : "سيدتي إذا كنت في شك فاتبعي صوت قلبك، فالقلب نادرا ً ما يخطئ. وإذا كنت في شك بين عقلك وقلبك..اتبعي نصيحة قلبك. فعقلك يضع دائما عائقا ً اسمه الحذر"



قالت إحدى الصديقات- وأنا ألتمس فيها العقل والحكمة- ناقلة عن إحداهن: إذا وقفت في حيرة في أمر، فاترك قلبك جانباً وفكر ألف مرة بعقلك، ثم إذا أتيت لتتخذ القرار النهائي فاتخذه بقلبك !






وبكلمة أخرى :






...ضع قليلاً من العاطفة على عقلك حتى يلين، وضع قليلاً من العقل على قلبك حتّى يستقيم.










-


- أما أنا فأرى أنّ المشاعر لا تُضبط، والأفعال وحدها تضبط "فطرةَ الله التِي فطَرَ النّاس عَلَيْهَا"


لذا لا حاجة للمحاولة في التّضييق على النفّس بين خياراتِ العقل والقلب "لاتِبديلَ لخلقِ الله" !


فـ"القلب لديه أسبابه التي لا يعرف العقل عنها شيئاً" ( بلايز باسكال)








***





ختاماً أهديكَ كما أهديتُني قبلاً وصايا جلالِ الدّين الرومي:






"اسمح لنفسك بالانجراف بصمت وبقوة صوب ما تحب حقًّا”


و"اتبع قلبك دومًا وسوف يأخذك حيث كنت في حاجة للذهاب"






اتبَع قلبك..













أ.خ


السّبت 25 فبراير 2017


11:05 م

بصائرُ وهدَى

0

كُنت أكتبُ رسائل يوميّة، وهي في الحقيقة شبهُ يومية وأحياناَ أسبوعية، ربّما أسميتهُا كذلكَ لأننا نتمسّك بالأيام، لاّن كل يومِ ينتهِي يُقرّبنا أكثَر فأكثر إلى الجُرف .. إلى نهاية كلِّ النهايات ..
كيف لا ونحنُ قومٌ يكرهون النهايات وينتظرون البدايات.. ألسنا نأجلُ الأشياء وندحر الأيامَ الغوالِي من أجِل البداياتِ الجديدة!
 لا يُهم .."ويمضي العُمر يا عُمري!"
 بالتقليب في وريقات تلك الرسائِل -التي لم تعُد اليوم تأخُذ حيزاً من خزانتِي-.. أجدُ انعكاس أحوالي فيها كأني أعيشها اللحظة، أي يومٍ أمسيتُ ضاحكةَ، أي يومٍ أصبحت دامعةَ، أيها كنتُ فيه أكتبُ وأنا في نشوة الإيمان، أي يومِ كُنت في غفلِة أتخبطّ كمن يتخبّطه الشيطان، وأي يومِ أمسيت أشهد ألا إلهَ إلا هو الرحمن الرحيم..
كأي بشر .. لا نعودُ إلى الصّوابِ إلا حينما تُمتحنُ القلوب، وحينَ تضيقُ بنا الدروب ..
حين ننتظِر العطاء، وحينَ يملؤنا الرّجاء ..
كان يترآءى أمامي في كلّ موقفٍ أو حادثةٍ شطر، أو بيت شِعر.. أمّا في الشدائد فلم ترتسِم أمام عينيّي إلا آية، أو بضع كلماتٍ من آية ..ويذكّرني كلّ ذلك بقصةٍ في آيات، وآية في قصّة ..
سورةُ يوسف .. ﴿لولآ أنْ رَأى بُرهَانَ رَبّه
عندما تُرسل إليك الكلماتُ لتكون دليك إلى الرشاد..
ليصّدك عن الزّلل ويرُدك إليه حينَ تنقِطع بِك السُّبل ..




***
نحنُ نتلو الآيات -والأصح نقرأ، لأن التلاوة تقتضي التدبّر- أو نسمعُها كلّ يوم، دون أن نستشعر معناها وروعتها وعِظمها، حتّى غدت قلوبنا كماءِ آجِن..
ولو فعلنا لحركّتها نسائمُ الذّكر فكانت نقيّة كماءٍ غير آسِن ..
لطالما نظرنَا إلى القرآنِ كمصدر يُستقى منُه التشريع والأحكام، أو تتفجر من تلاوتِه أنهارُ من الثواب فتطهَر الأدران وتمسَح الآثام، وذاك لا ريبَ فيه، لكنّه لا يكفيَه!
فآياتُه إعجاز ..وموعظةُ وتذكرةُ ..ورحمة، وأسلوبُ حياة ..!
هي السّراج إذا أظلمَ الطّريق، وهي العلاماتُ إذا تاهَ الدليل، وهي الأبواب لمتاهةِ الحياة..
هي الضياءَ للظلام، والجلاءُ للآلام..
هي الرّفيق الباقِي عندما يُغادر الجميع..
 ولو خانك ظلّك.. تظلّ معك، أنيسُ دربكِ ومُسامِر ليلكَ..
وإذا ارتبطت القلوب بالقرآن، فإنّ آياتهِ تتسرّب للأذهان، فكأن شخصاً ينفُث في جسدك طمأنينةَ، ويمسح على قلبك بلسماً وسكينَة..

***
تمرّ مواقف ترَى فيها الموتَ رأي العَين فتعبُر أمامكَ ﴿فاللهُ خيراً حافظاَ ..
وترفعُ بصرك للسماء، وتأتيكَ الطمأنينةَ ﴿وفي السّماء رزقكم وما توعدون ..
وتتتجرّع السّهاد ليالٍ تتمنّى لو أن الأرض انشقت وبلعتك ، وتجبركَ: ﴿ما ودّعك ربّك وما قلى 
و﴿كتبّ ربّكم على نفسِه الرّحمة ..
تتساءل أين ثواب أعمالك، وتأتيكَ الإجابة ﴿إنما توفون أجوركم يوم القيامة 
تكتمُ أحزان قلبكَ عن العالمين، وتوقِن أنّ هناك من يسمعُ بوحَك، ربّ العالمين ﴿ إنّما أشكو بثي وحزني إلى الله
تتكدّر من أمرِ لطالما رجوته وأفنيتَ عمرك في انتظاره، ثم يسري الأمل إلى قلبِك بـ﴿لا تدري لعلّ الله يُحدث بعد ذلِك أمراً !

تلك هي الحياة القرآنيّة.. الأمل القرآنِي، الحبّ القرآني، التفاؤل القرآنِي، النّور القرآني، الصبر القرآني، المواساة القرآنيّة ..
 يُدهشنّي كُلّ ذاك الجمالِ والهُدى الربّانِي!

 ***
وأنتَ تقرأ الآيات، سَتوقفُك آية.. اعلم حينها أن عينّك ما وقفت عليها إلا ليقفَ عندها قلبَك..
هي اختارتك لم تخترها، لتُجدد في روحك أمرا، أو تمّدك صبرا، أو تُلهمَك ذكِرا ..

وماذا لو؟
خططتّها على ورقة ووضعتَها على مكتبك، أو بين أحضانِ أول ورقتين في دفترك؟!
­رتّلها لتعلم، وكررها لتطمئن، واعمل بها لتوقِن..
وتذكّر ..﴿هذا بصائرُ للناسِ وهدَى



أ.خ

الجمعة  - 17 فبراير 2017

أرشيف المدوّنة

يتم التشغيل بواسطة Blogger.