في عهد سابق، كانت هناك الكثير من اللحظات خلال يومي التي تفتقرُ فيهِ إلى موادٍ قرائية مطبوعة، وقد كانت تشُغلُ بالتفكير أو مراقبة محيطي: حين المشي أو الانتظار في مكان ما، خلال ركوب المترو، وعند الاستلقاء على السرير غير قادرٍ على النوم أو قبل حشدِ الطاقة للاستيقاظ.
الآن، على الرغم من ذلك، غالباً ما أجد نفسي في هذه الحالات التقطُ هاتفي للتحقق من الإشعارات، أتصفح الإنترنت أو أقرأ بعض النصوص فيه، أو استخدام تطبيقاً أو أستمعُ إلى تسجيل صوتي (أو- في مناسبات نادرة- أنخرطُ في مكالمة هاتفيّة قديمة الطراز).
آخر مكانٍ متبقٍ أضمن فيه وجودي وحيداً مع أفكاري هو حوض الاستحمام.
قال نيكولاس كار، مؤلف كتاب "The Shallows":
" إنّ العثور على لحظاتٍ للانخراط في التفكير التأملي لطالما كانت دوماً تحدياً، لأننا قابلون للتشتيت".
ولكن الآن، بعد أن حملنا هذه الأجهزة الإعلامية القوية معنا طوال اليوم، فإن تلك الفرص تصبح أقل حضوراً، لسبب بسيط، هو أن لدينا هذه القدرة على تشتيت أنفسنا باستمرار ".
إنّ المرونة العصبية (أو قدرة الدماغ على التغيير) بسبب الاستخدام التكنولوجي يعدّ موضوعاً ساخناً.
وعادة ما يكون ذا أصداءٍ مثيرة للقلق، وإن كانت متفائلة أحياناً.
خذ على سبيل المثال ألعاب الفيديو:
كشفت إحدى الدراسات عن تحسينات في الذاكرة والتركيز على كبار السن عند لعب لعبة سباق طريق بسيطة. في دراسة أخرى، لعب لعبة سوبر ماريو 64 لوحظ أنّه يؤدي إلى زيادة في المادة الرمادية في مناطق الدماغ المرتبطة بالذاكرة والتخطيط، والتصوّر المكاني. ولكن هذه القدرات الاستنباطيّة تختلف عن التأملات المحتجزة عقلياً.
في العالم الذي نادراً ما يكون الهاتف أو الكمبيوتر أبعد من طول ذراع، هل نقضي على التأمل في الأوقات التي قد تفضي إلى ذلك؟ وهل عمق هذا الانعكاس قد يعرضُنا للخطر لأننا قمنا بإعادة تدريب أنفسنا للبحث عن الإشباع الفوري للمثيرات الخارجية؟
هناك قلّة من الدراسات العلميّة العصبية تكشف عن مدى اعتمادنا على أجهزتنا الإلكترونية وكيف نقوم من خلال أفعالنا بإضعاف قدرتنا التأمليّة، ورقة بحثيّة في مجلة بلوس عام 2015، قامت بقياس استخدام الهاتف الذكي من خلال تطبيق بمشاركة مجموعة تتراوح أعمارهم بين 18 إلى 33، وقد طلب منهم أيضاً أن يقدموا تقريرا عن توقّعاتم وتقديراتهم.
إذا كانت البيانات تعطي أي مؤشر، فإنّ معظمنا يستخدم الهواتف أكثر مما نعتقد:
قدّر المشاركون استخدامهم للهاتف بحوالي 37 استخداماً في المتوسط على مدار اليوم (يتضمن عمل أي شيء على الشاشة، ابتداء ًمن اختيار زرّ الغفوة إلى إجراء مكالمة)، ولكن العدد الفعلي كان حوالي 85. واستغرقت الأغلبية الطفيفة أقل من 30 ثانية. (كما قلل المشاركون من مدة الاستخدام بنحو ساعة - وكان المجموع الحقيقي 5.05 ساعات - والتي شملت المكالمات الهاتفية والاستماع إلى الموسيقى عندما كانت الشاشة مقفلة.)
إذا كنت مستيقظا لمدة 16 ساعة، فتشغيلك أو تفقّد لهاتفك 85 مرة يعني القيام بذلك مرة واحدة كل 11 دقيقة (ولا يُحتسب استخدام الإنترنت على جهاز الكمبيوتر)، و 5.05 ساعات تعني أكثر من 30 في المئة من يومك.
ما الذي يمكن أن يكون له تأثير على التأمل كهذا السلوك الذي لا يقاوم؟
في عام 2010، نشر باحثون برئاسة الدكتور ستيفن فليمينغ في مركز ويلكوم ترست للتصوير العصبي في كلية لندن ورقة بحثية في مجلة سينس ربطوا فيها القدرة الاستبطانية (إدراك الذّات) مع كمية المادة الرمادية في قشرة الفص الجبهي. (وقد تم تعريف القدرة الاستبطانية للدراسة على أنها دقة قياس أداء المرء على مهمة التّصور البصري، كعلامة على ما وراء الإدراك، أو "التفكير في التفكير").
باستخدام هذه المعلومات حول قشرة الفصّ الجبهي، نشر "براين مانسكالكو" و "هاكوان لاو " ورقةبحثيّة عن علم أعصاب الإدراك في عام 2015 والتي قاست القدرة الاستبطانية في حين كانت الموضوعات إما قادرة على التركيز على مهمة واحدة أو مشتّتة بمهمة ثانية صعبة.
إلا أنّ التشتت بالمهمّة الثانية لم يضر بالأداء الفعلي في المهمة الأولى، ولكنه أدى إلى إعاقة القدرة الاستبطاية (الإدراك الذاتي) عند الأشخاص (من خلال الإبلاغ الذاتي عن كيفية أدائهم بدقّة). ويدعم هذا الاستنتاج الأدلة السابقة الواسعة الانتشار على أن تعدد المهام يؤدي إلى انخفاض الأداء الاستبطاني. (مع دراسات أخرى تظهر بعض الآثار المفيدة من تعدد المهام)
لذلك، قال الدكتور فليمينغ: "إذا كنا نفكر في التنقل في العالم - جسدياً، أو عقلياً، عند التأمّل في شيء - باعتباره" المهمة الأولى "والنظر في هاتف أحدٍ ما على أنه" المهمة الثانية "، فإننا نجد أن هذا الأخير يعيق قدرتنا على التأمل.
وقال: "إنّ قشرة الفص الجبهي جيدة في القيام بشيء واحد في الوقت الواحد".
و "إذا وضعت الناس في وضع المهام المزدوجة، ستجد أن جزءاً من السبب في أن تصبح الأمور ضعيفة هو أن المهمة الثانوية تتداخل مع الوظائف التي ينطوي عليها التأمل."
ويبدو من البديهي أن نقول أننا على مقتبل مرحلة ثقافية غير تأمّلية، حيثُ يميل عصرنا إلى أن يكونَ منتَقداً بسبب امتصاصه الذاتي. ولكن روحانيتنا في كثير من الأحيان تعطي تعبيراً ينبثق للخارج بدلاً من الاستكشاف الداخلي، مع التركيز أكثر على الصور من أي وقت مضى. وعندما يكون هناك نص، فإنّ وسائل الإعلام الجديدة مثل الإنستجرام تقوم عادة بتهميش دور اللغة.
وفيما يخص نسبة معينة من البشر، فإنّ الأفكار الخاصة التي قد تمّ الاحتفاظ بها في عمر ما قبل الهاتف الذكي، يتم إلقاؤها الآن في منتدى عام.
وعلاوة على ذلك، فإن الإنترنت عادة ما يضع السرعة فوق أي شيء آخر، وشهيتنا للسرعة تتزايد فقط مع تحسن معدل نقل البيانات. في عام 2006، وجدت فورستر للأبحاث، أن المتسوقين عبر الإنترنت يتوقعون أن تتم عملية تحميل صفحات الويب في أقل من أربع ثوان، وبعد ثلاث سنوات، قفز الرّقم إلى ثانيتين؛ وقد أدت صفحات الويب البطيئة الكثير من المتسوقين إلى البحث في أماكن أخرى.
وبحلول عام 2012، اكتشف مهندسو غوغل أنه عندما يستغرق زمن ظهور نتائج البحث فترة أطول من خُمسي الثانية، فإن عمليّة البحث تقل من قبل الأشخاص، كما أن تخلّف رُبع ثانية عن موقعٍ منافس يمكن أن يدفع بالمستخدمين بعيداً.
وقال كار "هذا يدلّ على الطريقة التي تزيد فيها تقنياتنا من كثافة المثيرات الخارجية وتدفق الأشياء الجديدة، ونحن بدورنا نتكيف مع هذه الوتيرة". وأضاف "إننا اصبحنا أقل صبراً. فعندما تأتي لحظات دون مثيرات خارجية، نبدأ في الشعور بالذعر ولا نعرف ما يجب القيام به مع هذه اللحظات، لأننا دُرّبنا على أن نتوقع هذا التحفيز أو المثيرات -( إشعارت وتنبيهات جديدة وهلم جرا..)
"ما يترجم هذا في سياق خطاب الإنترنت هو الطلب الفوري و السطحي "للأخذ بسرعة" عوضاً عن الأحكام المتأنيّة والموزونة، سواء كان ذلك حول مسائل خطيرة أو حتّى سطحية.
كما أشار السيد كار إلى وجود حججٍ مضادة:
إن صياغة أفكار بسيطة نسبياً على شبكة الإنترنت يمكن أن تُسفر عن أفكارٍ أكثر تعقيداً من خلال التبادلات مع الآخرين في الوقت الفعلي، والأشخاص الذين يتمثّل رد فعلهم بنشر رأي أو فكرة على عجل بدلا من تقييدها، لربّما لم يكونوا المفكرين الأكثر وعياً، حتّى في وقت ما قبل الهاتف الذكي.
بيد أنّه يرى أنّ اتجاهنا الحالي يعدّ مؤشراً على "فقدان العقل التأملي.
"لقد اعتمدنا نموذج غوغل المثالي للعقل، وهو إن كان لديك سؤال ما يمكنك الإجابة عليه بسرعة:أسئلة دقيقة ومحددة جيداً.يٌفتقد في هذا المفهوم أن هناك أيضا هذه الطريقة ذات النهاية المفتوحة للتفكير، حيث أنّك لا تحاول دائما إيجاد جواب لسؤال، وإنّما تحاول أن تذهب حيث يقودك تفكيرك. كمجتمع، نقول إن طريقة التفكير هذه لم تعد مهمةً بعد الآن. حيثُ أنّها غير فعالة ".
لاحظ السيد كار أنه على مدى عقود، كانت منحوتة "رودي 1902 -"المفكر" تجسد أعلى شكل من أشكال التأمل، شخصية ذات هيئة جسديّة مهيبة، تحدّق بتفكّر للأسفل، محدودِب الظهر مانعاً أي مشتتات، مجمد لأنهُ تمثال، بطبيعة الحال، ولكن أيضاً لأن المفكرين بعمق بحاجة إلى وقتٍ ولا يتملمون.
من الصعب أن نتخيل تحديثاً عصريّاً لهذا المجسم ،يسمّى "المغرّد The tweeter"، أن يكون ملهماً حقاً!
هذا التدوينة عبارة عن مقال مُترجم للإفادة ولإثراء المحتوى الرقمي العربي على الإنترنت
المصدر:
https://www.nytimes.com/2016/06/12/fashion/internet-technology-phones-introspection.html
شكرا جزيلا على الترجمة .. تحمست للموضوع من سناب الاخ احمد الردادي و جاءت الترجمة بوقتها
ردحذفالعفو .. أتمنّى أن تكون قد أفادتك ..
حذف