أربع الجنان في سورة الرحمن

0

البارحة قبل منامي استمعتُ لسورة الرحمن، وليست المرّة الأولى، ولكن على غيرِ العادة من خلال فيديو مصوّر ومُترجم للآيات عبر اليوتيوب ..

ولربّما مشاهدتي تلك هي ما لفتتني لأمرين من خلال التصوير والترجمة، فالأول أنني وقفتُ على كثير من المفردات والمعاني التي لم أقف عندها سابقاً، وأما الأمر الثاني فهو إدرك أن الأول ما كان إلا نتيجة لتقصيرنا في الفهم والتدّبر..

وليس هذا ما أردت أن أكتبُ عنه في هذه التدوينة، وإنما سأضع بين يدي القارئ تفسيراً مقارنا ومُخلصاً، أحسبه لو -كان مثلي- سيشعر من خلالهِ بأنه تلا السّورة لأول مرة، ولنعتبرها رحلةً تأمليّة قصيرة بديعة، وليست خواطر وتأملات ذاتية كما تُسمى، وإنما استندت فيها على خلاصة لقرائتي في تفسير الخازن والسعدي ومختصر تفسير ابن كثير ..


وهي ابتداء من الآية 46 :

وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)

وتعقبها أوصاف الجنتين لمن خاف ربه ..
ثم :

وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ(62)


وتعقبها أوصاف الجنتين الأخريين ..

أي أنهما أربع جنان منقسمتان اثنتين اثنتين ..



** وقد ميّزت الآيات الواصفة للجنتين الأولتين بالأخضر ومن دونهما بالأحمر لتكون أكثر وضوحاً ..


1) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ: أي واسعة الفناء فيها ظل الأغصان على الحيطان، ما يعني احتوائها على شجر كثيف يتخلّله الضوء ..ولك أن تتخيّل المنظر!

2) مُدْهَامَّتَانِ: أي خضراوتان، والمعنى فيهما شجر كثيف ممتلئاتُ من الخضرة ..
ولا حظ أن المنظر هنا الاحتواء على شجر كثيف جداً ولكن لا يتخلله ضوء .. فالمنظر أقل جمالاً!

***
1) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ: وقيل إحداهما يقال لها تسنيم والأخرى السلسبيل، ولاحظ أنهما جاريتان ولا أجمل ولا أنقى ولا أعذب من المياه الجارية..

2)فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ: أي فيّاضتان، والجري أقوى من النضخ، ولاحظ أيضاً أن النضاخة لا توصف بالجريان ولكن في الأولى قد توصف العين التي تجري بالنضاخة!


وأما عن الثّمَر :

1)فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ: أي من جميع أنواع الثمار مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر..

والجنتان الأقل منهما:

2)فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ : وهنا ذكر "فاكهة" بصورة نكرة وأضاف النخل والرمان لشرفهما على غيرهما، مما يعني أن الأولى أعم وأكثر في الأفراد والتنويع ..


وفي وصف الفراش:


1) مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ ۚ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ : والاستبرق الديباج المزين بالذهب، والحَظ معي أن هذا "باطنها"، أي تنبيه بالأدنى على الأعلى، فكيف بالظاهر؟
إضافة إلى وصف الثمر قريباً يتناولونهُ متى شاؤوا ..

2) مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ : والرفرف الوسائد ، والعبقري الزرابي، وهنا لم يذكر وصف الظاهر فلا تعرف عن الباطن شيئاً، وهو أقل من وصف الباطن وترك الظاهر مبهماً .. ولكَ أن تتخيل كيف سيكون الظاهرُ إذا كان الباطن من إستبرق؟


وبعد أن ذكر الفرش وعظمتها ذكر ما في الفرش :

1) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ : أي غضيضات عن غير أزواجهن، فلا يرين أحسن من أزواجهن، وقاصرات الطرف -على وزن فاعلات - بإرادتهن.

- والجنتان الأقل منهما:

2) حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ : ولاحظ أنهنّ مقصُورات وليس قاصرات كفرق بين فاعل بإرادته ومفعول به، ولا شك أن التي قصرت طرفها بنفسها أفضل ممن قُصرت ..

***
والبديعُ في السورةِ ترتيبُ الآيات للوصف الأول مطابقٌ لما تشتهيهِ النّفس .. فلو تأمّلت في ترتيبِ وصوف الجنتان الأولتين سيكون الترتيب كالتالي :


فأول ما ذكُرَ أسرُ النظرِ بجمال الضوءِ المتخللّ للأغصانِ، وجريان المياه، والفاكهة المتنوّعة ذات القطوف الدانية، وما بعد الأكل إلا الراحة، فأتى وصفُ الفرش، وذكر أن الطعام والقطوف آتيتُك لفراشك لو اشتهيت، وفي هذا تمامُ الرّاحة، ثم أعقب بوصف شريك الفراش الذي فطر الله الميلَ إليه ليكون أروع ما يكون وأعف ما يكون ..

وأما في الجنتين اللتين من دونهما، فواصفٌ لجمالٍ ولكن أقل روعة حتّى في ترتيبِ الآي -لمن لم يلحَظ- !!


وبعدَ هذا فما الفارق بين من استحقّ الأولى ومن استحقّ الثانية؟

فالأوّلتين : "لمن خاف ربه" ..


"وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ"

وأما الجنتانِ الأقل فلمن عملِ صالحاً، وهنا الفارق بين العابدِ العادي وبين من يخافُ الله في خلواتهِ، ويعبدُ الله كأنهُ يراه فجعلت له هذه المنزلة العظيمة..

ولعلّ هذا هو المقصودَ بالتقّوى !

قال طلق بن حبيب: إذا وقعت الفتنة فأطفئوها بالتقوى. قالوا: يا أبا علي: وما التقوى؟ قال: أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله.
 
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: وقد قيل إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل أبي بن كعب عن التقوى، فقال له: أما سلكت طريقاً ذا شوك. قال: بلى. قال: فما عملت. قال: شمرت واجتهدت.
 قال: فذلك التقوى.

وقد أخذ هذا المعنى ابن المعتز فقال:

خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التّقى
واصنع كماشٍ فوق أرض الشوكِ يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى !

ولنا أن نتخيّل ذنوبنا الصغيرة - في نظرنا- وذنوب الخلوات 


كيف ستجعل الفارق شاسعاً في الدار الآخرة!!



قال مُطَرِّف بن الشِّخّير :

" إذا اسْتَوَتْ سريرة العبد وعلانيته ؛ قال الله عزَّ وجلَّ : هذا عبدى حقًّا "

اللهم اجعلنا من المتّقين واجعلنا للمتقين إماماً !

#إضافة :

من فَهم هذهِ الآيات ثم أتبعها بقراءة سورة الواقعة وجد الترابط بين السور والحكمة في تتابعها، ولقد وجدت كتاباً يتضمنّ تصويراً رائعاً عن التقوى مستشهداً بأنواع الجنان . . أنصح بقرائته، ويمكن تحميله من خلال الرابط أدناه:

التقوى الغاية المنشودة والدرة المفقودة





لا يوجد تعليقات

أضف تعليق

أرشيف المدوّنة

يتم التشغيل بواسطة Blogger.