بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيد المرسلين ومن تبعهُ بإحسان إلى يوم الديّن، وبعد،
فيما يخص المناقشة حول التفكير المتجدد في كتابة السيرة النبوية أم الاعتماد على أمهات الكتب المتناولة للسيرة النبوية، فإنه في البدء قبل أن أوضح رأيي، لا بدّ أن أوضّح أن السيرة النبوية، باعتبارها جزءاً من الخطاب الديني، قد خضعت لموضوع التجديد والابتكار، أي أنه أمر غيرُ مستحدث، ولو كانت العلوم كافةُ والدينية هنا خاصةُ، لا تقبل التجديد والابتكار، لاكتفى أصحاب أمهات الكتب بما كتبهُ من سبقهم، ولتوقّفنا جميعاً على ما وردَ أوكُتب في عصر الصحابة - مع أني لا أعلم- والله أعلم- أحد منهم رضوان الله عليهم أجمعين، قد اختص بكتابة السيرة، وإنما اللاحقون ومن بعدهم من الأجيال-، ولكانت كل العلوم ومنها السيرة النبوية مسؤولية تقع على الصحابة أو التابعين وحدهم، ولكن يتضح لي أن الإسلام دعا للتجديد والابتكار بشرط الاستقامة والصحّة، وتلك مسؤولية منوطة بإخلاص واجتهاد المؤلفين والكتّاب والدّعاة، وانطلاقاً من مشروعية ذلك في الدين فإني أرجّح كفة الإبداع والتجديد، لعدّة أسباب أذكرها هنا:
- السيرة النبوية أتت لكل مكان وزمان، أي الأخذ بها مستمرُ حتى قيام الساعة، إلا أن المستجدات والعصور وما فيها من أناس ولغات قد اختلفت وتغيّرت، فكان لابد من ضرورة التجديد في أسلوب التقديم لا التغيير في الأصل، بكلمة أخرى، إن الأسلوب التي قدّمت به أمهات الكتب في العصور السابقة قد لا يتناسب مع العصر الحالي، وخصوصاً عندما تقدم خطاباً أو كتاباً للعامة، فإنه ينبغي على الكاتب، -حرصاً منه على بلوغ الهدف المنشود من الكتابة- أن يتخذ في الأساليب ما يراهُ الأقرب والأنسب لعقل وقلب القارئ وأن يكتب ما يتلاءمُ مع العصر الذي يعشيهُ، دونما مخالفةٍ لأي واردٍ في الكتاب والسنّة.
- إذا اكتفينا بأمهات الكتب، فإن هذا يعني الاكتفاء بمنهج واحد، وتقييد الإبداع والتجديد الذي هو ميزة وخاصيّة من خصائص هذا الدين العظيم المرن، والتضييق على العقول قبل الأقلام، وحينها يصبح العلم – ومنها السيرة- حكراً على السابقين، ومنع الآخرين من التفكير والاستنباط والبحث، وقد أحسنَ العقّاد عندما أسمى أحد كتبهِ " التفكير فريضة إسلامية" ، فإذا كانت الآيات الواردة في القرآن عن شأن التفكّر والتفقّه والتبصّر ومرادفاتها تزيد عن مئتي آية، فهل يعُقل أن الدّين الذي أتى حاثاً على التفكير أن يجعلهُ ميزةً في يدِ الأوائل والسابقين؟ ويحرم منهُ اللاحقين؟ وقِس على ذلك موضوع التجديد في السيرة النبويّة.
- إذا تابعنا التسلسل التجديدي للسيرة في التاريخ، وجدنا أن أول التجديد الحادث كان "تدوين" السنة بعدما كان النقل الشفهي، ثم أتى عصر الجامعين كابن هشام، وأتى من قسّم وصنّف وبوّبَ السيرة، وأظنا الآن في زمن يتطلب المزيد من الشرح والتعقيب والتفصيل فيما يخص السيرة النبوية، خصوصاً أننا في زمن بعُدنا فيه زمانيّاً، وإيمانيّا، وحتى لغويّا، عن قرنِ السيرة.
- هذا كله لا يتنافى مع أهمية الاحتفاظ وتدارس أمهات الكتب التي هي الأصل فيما يكتبُ اليوم، فيكون لها مختصّيها ممن يعاود التأمل والتعقيب والشرح فيها، فالمسألة إذن مسألة تجديد في الأسلوب والصياغة وتقريبها من الجمهور بحيث تحظى بأوسع انتشار، وتكون أشدّ تأثيراً في قلب المتلقي.
وأختم بقول المصطفى عليه الصلاة والسّلام" إن الله يبعثُ لهذهِ الأمة على رأس كلّ مائة سنة من يجدد لها دينها"، وهذا – والله أعلم – هو المقصود بالتجديد، لا التجديد المعنى بالتغيير الجذري للأصول والبدع، وإنما التجديد المعنيّ بالإبداع والابتكار في الوسائل والأساليب مع المحافظة على المادة المستمدّة منها التي هي هنا متمثّلة بالسيرة النبوية.
وشخصيّاً، إذا ما أتيتُ لأقرأ في السيرة كسرد تاريخي، فإنني أعتمد تمام الاعتماد على الكتب الضخمة من أمهات الكتب التي تحتفظ بتسلسل وتدليل متين، دون الاختصار والإسقاط المقصود بهدف التبسيط، وفي المقابل، فإنني أحبّذ أن أقرأ في كتب المجددين إذا ما أردت قطف العبر والدروس والروائع يسيرة قريبة. وهذا مثال يبيّن أهمية كلٍ منهما – بالنسبة لي- .
أسأل الله أن يجعلنا من المجددين لا المبتدعين.. والحمدلله ربّ العالمين.