لا يخفى على أحدٍ مفهوم النفاق بتعريفهِ الاصطلاحي الدّيني، أما حديثي هُنا فهو لا يُعنى به، وإنما بإحدى موروثات زعيم النفاق العقائدي ابن سلول التي تجّلت وسط معمعة الأحداث ونزواتها، فتعرّت العقول جرّاءها، وتَكشّف "النفاق" بأنواعهِ، فكأنما بارك الشيطان فيه ذريته، حتى لتحسب أن ممّن صلبه من أولاد آدم ضعف ما هم من غيره لكثرتهم!. ولذا اختصرُ المقدّمة بالتأكيد على ما أكّد عليه القرآن وبيّنه من خطورة وضرورة، ولعل في بيان خطورة هذا المفهوم وفي بيان ضرورة الوعي به، سبب ورود سورة كاملة باسم : "المنافقون" ..
وفي ما قد يٌفهم به النفاق الفكري بكونه الافتقار لصدق النقد والرد وغيره، -وإن كان فيه حقيقةً شيء من النّفاق " الاجتماعي" في نظري-، فهو خارجٌ عن إطار الهدف المقصود بالكتابة هاهنا، فما أعنيه هنا هو الازدواجية في الشخصية الفكرية للفرد، أي يرضى بالرذيلة في باطنه ويتظاهر بالفضيلة، وبما أن النفاق يُقابله "النزاهة"، فإنه سيتضح للقارئ سبب وجود الحالتين الباطنة والظاهرة للمُنافق، حيث أن بروز النّزاهة يعني أن تظهر الأفكار والمعتقدات الحقيقة للفرد، وكبشر فمن الطبيعي محاولة إخفاء ما نراه قد يؤثر في صورتنا، إلا أن الغلو في التمركز حول الذات يفضح كل الممارسات والأفكار المضطربة، فالأفعال والمعتقدات الخفيّة تنسجم بفعل النزاهة ..
لذا اعزُو مشكلة النفاق الفكري إلى وجود ثغرات في السلوك، وأخرى إلى إصابات حادة في دين الفرد، ثم إلى تدني مستوى النزاهة المنوط بالوقوف على تناقضاتنا الفكرية الداخليّة.
ومانراهُ اليوم من نفاق فكري قد فاق مراحلهُ الأولى، ليصبح اختلال في الفكر وماعداه من السلوك والممارسة!
وتنتشر أزمة النفاق الفكري بكثرة في أوساط لابسي رداءات "المثقّفين" ، لتغوى بهم الجماهير المتعطّشة " للثقافة " أو المحبة "للدين" ، بالخطابات الظاهرة، والحروف المنمّقة، وما خُفي من قبح لا يظهر للعوام إلا بالمخالطة والمجالسة، أو بالقراءة المكثّفة الناقدة الواعية، وقد لا تكفي، فكيف لمن رأى بؤرة النور أن يحيد عنها؟
و لهذهِ الفئة خِصال وسمات، فهم يمتهنون بالحرفيّة العالية في استغلال اللغة والفنون والدّين والتراث، وتجدهم قد شغلوا وأشغلوا النّاس بالفروعُ عن الأصول، كما يشتركون في ضبابية الرؤى والأهداف، واستخدام الأساليب ذاتها، والرد بالحجج والمنطق ذاته، وغيرهِ مما لم أقف عليه..
وإذا أردت أن تستبين وتصل لليقين، فسلهُ سؤالاً عن المبادئ فيما يخصّ المجتمع أو العامة من دونه، وترقّب المفردات البرّاقة، ودعه يخض في قول "لنا إيمان لا يتزعزع" ، ولن يلبَث مليّاً إذا ما باغتهُ بسؤال يفضحُ بواطنه، فسرعان ما سيتحلل من وعيه ومن "المبادئ" والمثاليات الهُلامية!
ولا يخفى على أحد أن الخارجين من أبواب كليات السياسة والإعلام والفنون قد فاقوا غيرهم وتفوّقوا في هذا النفاق الفكري الذي أصبح لبعضهم "مهنة و "لقمة عيش"!
قد يُفهم من قولي هذا أن عدم الإلتزام بالأفكار والمبادئ الشخصية وتعارضها أحياناً هو نفاق، لذا أشيرُ إلى أن المقصد هو الافتراء تارةً على المعتقدات الشخصية والتلاعب بها، وتشكيلها بصورة مثالية، وفقاً لما يجذب هذا أو يخدم غرض ذاك، أي أن التعارضات في الأولى تقتضي تغيير السلوك ليوافق الفكر البيّن، أما الحالة الثانية الموسومة بالنفاق فهي إعادة تشكيل الفكر وقولبتُه بما يظهر بتوافقه مع الأنموذجات وبالأصح " الأوثان " الدينية والسياسية والفكرية، وهنا يتمثّل الخطر..!
حيثُ تبدأ تلك العقول المنافقة ببثّ السموم بشكل لا يظهر للقارئ العادي، مستخدمةً الإيهام الذي يغفل عنه البسطاء، وما ينطوي على هذا الإيهام، من غسل للأدمغة، وجناية على المبادئ ، والتّلاعب بالنصوص والتعاليم الشرعية، حتّى تبدو أقوالهم وكتاباتهم للجماهير كلمة حق، بينما يُراد بها باطل.
وهؤلاء سيلجمونك إذا ما اعترضت أو حاولت نزع الغطاء عن سواد الخفايا، إما برد ينطوي على إغواءات المنطق، أو شرعنة المستقبح والفاحش في ردودهم، لتلزم الصّمت وتلزمك الحيرة! أما الأدهى منهم سينتقل للجزء الأخطر، من إلى الرّد وتفكيك الحجة إلى استغلال الفرص لتفكيكك أنت!
بالقراءة في النصوص المتفرقّة، من أقلّ حروفها عدداً ، كتغريدات تويتر إلى الخطابات الطوال، والكتب ذات المجلدات ستجد كم هذه الأزمة متغلغة من أدنى القاع إلى حاملي الألقاب والشهادات!
وإن كان من الواجب علي بعد أن عرضتُ شيئاً عن هذا المرض الخبيث، أن أورِد حلاً، إلا أنني أستحسن الوقوف على ما ليس لي به علم وأن أتركَ المجال للقارئ بالرجوع لزمرة المفكّرين والعلماء، بعد إزالة الغشاوة ليرى بوضوح كل تلك النماذج "المنافقة"، ولا أجد في الوقت الراهن غير تربية التفكير النقدي وسيلةً للعوام أمثالي بعد التّمسك بكتاب الله سنة رسوله، -عليه الصلاة والسّلام- ولي في هذا قول آخر - إن شاء الله - ..
أعد النّظر في من تتابعهم أو تقرأ لهم أو تعرفهم أو تقابلهُم في أوساط المجالس . .
كم منهم مصاب بهذا الدّاء العضال؟ أُخبِرُك مسبقاً : لن تحصهِم عددا!
أحذروا النّفاق الفكري بالدّين والوعي . .
أقولها لدرء الخطر ..
لا يوجد تعليقات
أضف تعليق