بعد تأملٍ في ماهيّة مواقع وبرامج التواصل الاجتماعي، بأنواعها، أجد أنّها أقرب إلى أن تكون مضخة "برودكاست" قصير عشوائي بمعنى حيناً وبلا معنى أحياناً، سواء كان هذا البرودكاست صوريّاً أو نصاً مكتوباً كما في الأكثر منها، أو حتى بضع رموزٍ تعبيرية تقوم بدورها بإيصال رسالة مبطنة.
قضية الوقت المُستهلك على هذهِ المواقع والتطبيقات قضية قديمة، عادت بي إلى مايزيد عن خمس سنوات عندما كانت تمتلئُ الصحف بمقالات عن "الإدمان" للشابكة ووليداتها من هذه المواقع والبرامج والتطبيقات، وكذلك الفقرات الصباحية على القنوات الإخبارية التي تسرد إحصائياتٍ عن حالات الإدمان والساعات الضائعة فيها وعليها وما يتبعها من أضرار ومخاطر..
أما يومنا هذا فلم يعد يتحدث أحد عن الإدمان، لأن الكل مدمن ببساطة! :) فالوضع المجتمعي السليم يفرض بك أن تكون بجوار هاتفك 7/24 وأن تلفتَ للجديد من إشعارات، وأن تكون على دراية بكل جديدٍ على الساحتين السياسية والمجتمعية وحتى التقنيّة.
أتذكّر عام 2007 عندما أعلن ستيف جوبز عن أول هاتف ذكي، الهاتف الذي بعد ولادتهِ نشأت سلالة جديدة من الهواتف الموسومة "بالذكاء" وانقرض ماعداها، وتكاثرت جينات التطبيقات والتي أعقبت نقلة جذرية في الحياة البشرية على كافة أصعدتها.
لحظة، هل تذكر كيف كنا نعيش قبل 2007؟هل تذكر متى ظهر الواتس أب؟ وأشقاؤه التليقرام والمانجو؟ . . بنترست؟ قوقل بلس؟ المضخّات الصورية - انستقرام وسناب شات؟هل تذكر متى أول مرّة حجزت معرّفاً لك في تويتر؟ وهل تُلاحظ كيف تغير العصفور الأزرق خلال كل هذهِ الأعوام؟ والأهم، كيف تغيرنا نحن؟!
ألم نكن نحيا حياة طبيعية؟ القصة بما فيها أن غلبة التأثير الجماهيري تؤثر علينا بشكل أو بآخر.
وعموماً، ليس هذا إلا استرسالاً ساح عنده قلمي لما أردت جعله مقدمةً، فالمعضلة الحالية هي خداع النفس بإلباس "البرودكاست" ثوب التّثقيف والعلم، وإيهام الذات بالفوائد المجنيّة على حساب الأضرار الواقعة لا محالة.
وإن كنت لا أنكر أن لها دوراً إيجابيّاً في موضوع التعليم وبناء الثقافة، إلا أنها تظل أشبه بفقاعة، خدعة كبيرة يقع فيها الناهمين للعلم السريع.
خذ على سبيل المثال، إذا كنت تتابع عدداً منوّعاً في أقلّه 100، وجميعهم ذوو علم - في أفضل الأحوال-، [وبهذا أكون قد نحيّت جانباً نقطة "البلاهة المكتسبة" و"الآثام الواردة" من قائمة الآثار السلبية، كما سأتجنب الخوض في موضوع المخالفات "الاجتماعية" والدينية"]، . . وبمعدل تغريدة " أو برودكاست " واحد فقط لكل حساب، أي 100 مختزلة في 140 حرفاً -وهذا أقصرها :) ..
يا ترى . . هل تقرؤها جميعها؟ هل يتاح لك الوقت لتستوعبها وتقلّبها، لا لتمررها على عينيك أو عقلك؟ لتتفحصّها وتمحصّها و تتأكد من صحتها ومصادرها؟
وإذا ما التفتنا لمُخرجات حياتنا الضائعة بين ضفافها، يتشكل حينها أمامنا حجم الخدعة التي نعيشها.
ما إن يرتدّ إليك طرفُك حتى تجد إصبعك تتحرك لتمرير الصفحة إلى أسفل استقبالاً لتدفق "برودكاست جديد"، وإن افترضنا جدلاً قيمةً لها، فإن التعبئة السريعة والزائدة لكميات مختلفة من المعلومات القصيرة المتتابعة لا تعطيك الفرصة للتمعّن والتفكير فيها.
إذن فثقافة البرودكاست تتسم بالتضليل! ولا حاجة لي في أن أضرب مثالاً على أشكال التضليل المختلفة، ولكن سأنوّه على شكلين قد يغفل عنهما القارئ. إن الأشياء التي تمر على العقل وإن كانت عابرة سريعة تؤثر فيه بشكل أو بآخر، - وارجع لعلم النفس المعرفي فيما يخص هذا الموضوع- مما يعطي نتيجتين، الأولى، أن تضللك المعلومات العابرة والأقوال الخاطفة بشكل لا مباشر ولا متوقع، وثانيها، أن اختلاطك "الوهمي" وتتبعّك أو تربّعك لساعات وسط "المجالس الوهمية" للعلماء" أو المثقفين أو السياسين أو غيرهم ستلقي عليك "وهم" كونك واحداً منهم. .
ثقافة البرودكاست السائدة حالياً أدت إلى تفشي الخداع التصوّري قبل التصويري، وكثرة طلبات "الفتوى" التيك أوآي ، والتحليلات الخالية من أي منطق، والتشكي "المتسوّل للتعاطف" وتعاطي الأحداث المجتمعية والسياسية وتضخيمها بصورة لا تُقدم فيها ولا تؤخر، وإنما أحياناً قد تزيدها بلة وبلبلة، كما يحدث حالياً وسط الأزمة، فتشعل أضواء المسارح صادحة بالمهاترات السياسية، وتتضارب المعطيات، وتتكشف هولويدات الطوائف الفكرية.
وأظننا في غنىً عن كل ذلك!
القراءة العابرة وحتّى المتأنيّة لكومة البرودكاست اليوميّة لا تصنع سوى "مُلم" بأوضاع الساحة، أو مثقّف استعراضي" في أحسن الأحوال.
أضف لما سبق أنها عامل أساسي في تنمية الكسل والعجز، وإذا بحثت عن أكبر مسبب لمشكلة التشتت فستمثلُ - صديقتنا- في أول القائمة.
ولا يخفى على أحد صناعتها للحظات الخاطفة، فلا تمنح التّجربة الكاملة، ويتفضّح ذلك جلياً بهوس المشاركة، وأجزم أن التجارب الناجحة والأفكار العظيمة والخواطر الصادقة هي التي لم تجهض بنشرها.
وبعد هذا، لنضع بضع تساؤلات :
بين كلّ ما تقرأ وما تكتب . .
- هل لها من تأثير حقيقي نافع في عقلية المتلقي ؟
- ثم أين موضع المسائل العليّة التي انشغل النّاس عنها بالسّفاسف؟
- أين ثمرة التحليلات والاستنباطات السياسية؟
- ما فائدة الانشغال بتحليل صحة الدّعاوى؟
- كم منها تعمل بشكل أو بآخر على الأدلجة والقولبة والتنميط؟
- كم منها يفتقر للمنهجية؟
وضع في بالك هنا، أنني أتحدث عن الصفوة من جموع "البرودكاسترز" !
إذن مواقع التواصل :
- لا تصنع مثقف حقيقي - والحظ أني قلت مُثقّف ولم أقل عالم أو مفكّر أو فيلسوف :) -، ببناء علمي متماسك، وإنما تكتفي بتكوين "سطحي" وهمي" هش ، لا ينفع إلا للاستعراض.
- مضيعة للوقت أكثر من كونها منفعة، لأن تنمية المهارات الحقيقة يُستحال في حضور "مسارح الاستعراض". .
- تشتت ذهني، تتشت أسري، تشتت نفسي :)
- تربية طبع العجز والكسل والنهم في الأخذ السريع. قارن عدد الساعات المقضية في تمرير البصر بين النصوص العابرة، وفي دهاليز المواقع والبرامج وبين مصادر النفع الحقيقية، سواء دينياً أو دنيوياً ، وأقرب شرح لمقصدي، أن القراءة قراءة، سواءً كانت لكتاب أو لمُصحف أو لبرودكاست، مقياس الحروف واحد، إلا أنّ مع ذلك نتثاقل ونستطيل القراءتين الأولى والثانية وننشط للثالثة وربما نخبتُ لها بالسّاعات، مع أن القراءة في جنسها واحد!؟ فهلّا تساءلت عن السبب؟
أقولها لك، لأن الأخيرة تنسجم مع "الأهواء " لأنّها تُشبع رغباتنا. ثم ألا تجدُ أننا نستلذ بالعلوم القصيرة والوجباتِ السّريعة؟
وعموماً، فمن الرزايا أن أناصح فيما أن واقعةٌ فيه، لكن لعلي احتسبها هروباً من معتقلات الخطايا . .
#
لا يوجد تعليقات
أضف تعليق