ثمّ تتفكّروا

0
وجدتني خارجاً، في ليلٍ لفّ بردائهِ الكون واحتواهُ إليهِ لباساً وسكناً، إلا أنهُ على غير العادة الآن سقيمُ النّسيم. وجدتنِي أُنزّهُ ناظريَّ بين ظلمةٍ يتخللها أنوار، بعضها في الأرض وأبهرُها معلّق في السماء .. قمر تام ..
يُقال: القمر والحُبّ عنِدما لا يتزايدان يتناقصان .. من هذه المقولة يسعني أن أربط بين الأعجوبتين وتجددهما وديمومتهما ..
السّاعة بعد منتصف الليل، ليلة النصف من الشهر . .
وماذا عساني أن فعل في وقتٍ فيه الناس بين نائمُ وهائم وقائم ؟
سوى أن ألتمس نفحات من روحانيّة الليلِ وسكينتهِ، وأستلهم من نورِه المتربّع على عرشهِ وسط جواريهِ من النجوم الكافوريّة ...
"وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ"

في مرأى القمر تتبدّى لي جماليّة وروحانيّة وطمأنينة، جعلت لي علاقة وطيدة معه، ومما يحضرني الآن عن هذا الصّاحب المُسامر في ليّاليَّ، قول الرّحمن تباركَ وتعالى :

﴿فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ﴾




بالنّظر في قصة إبراهيم عليه السلام وفي الآية السّابقة، أجدُ روعة في الطريقة التي قدّم بها القرآن الكريم على لسان سيدنا إبراهيم مختصراً شاملاً شارحاً لقضيّة التفكير والتأمل..

بدأ ناظراً متأملاً، فاختار كوكباً ثم القمر فالشمس، أي أنه بنظرته تلك للفلك والسّماء ومافيها قد اعتبرَ موجوداتِ الكون مُعطيات للتفكير، ثم ألحق التفكير بتساؤلاتِ النّفس كأداة نقدّية محاولاً الإجابة عنها للإحاطة بالمسألة، فإذا كان القمر (المعطى) إلهاً" ؟ فلماذا أفَل؟ وبما أن التّفكير التأملي يعني التحررَ من قيود الهوى، وغرور العقل، لابد وإن يؤتي ثمارهُ ولو بعد حينٍ، وإن ترامت التساؤلات على قارعة الطريق وتكدّست، وإن طالت المُدة وترسبت المُعتقدات والمفاهيم القديمة ..

ولعلّي التمس في تكمِلة الآية درساً شاملاً .. أن الهداية تقوم بأساسين لا استغناء فيه عن أحدهما عن الآخر، فالأول التّفكر، وهو بمثابة بذل للأسباب وإنارة للعقل .. وثانيهما التوجه إلى "الهادي" بالدّعاء، فلا تكتملُ بدون هديهِ الخطوات، ولابدونهِ ترتبط الأمور، ولا تصل الخطوط إلى النهايات، فالإشارات قد تكون من حولنا والأدلة موجودة، ولا نوفّق للطريق، فكم من مُفكّر ضل، لأن الشطر الثاني من المعادلة مفقود .. كمن وجد فانوساً دون نارٍ وفتيل، فماينفعه حينها الإيجاد "للأداة/الوسيلة" دون مصدر النّور الحقيقي إذا تخبط في الظلام!


#
"فلمّا جن عليه الليل"
ألا يمنحنا هذا أحقيّة القول بأن الليل مخدع الأفكار وسبر الأغوار ؟



***
وفي ذكر إبراهيم أيضاً لنا آية أخرى :

فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۖ"

نظرتي لهذه الآية تتلخصُ في أن ما بعدَ العزلةِ إلا الخير ..

أّما ما أتى في ذكر العزلة والتفكر فآية جمعتهما معاً لتقدّم لنا حقيبةً من الدروس في سطر!

قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ ۖ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ۚ


أن تقوموا لله .. 


إنّ عمليّة التفكر عمليّة سامية، بها تُشعل المشكاة للوصولِ إلى الحق، ولمّا كان الحق اسماً لله، استلزم درب الوصول إليه أن يكون نقيّاً خالصاً له، فيه التجرد من الأهواء والنزعات..


ولما كانت عملية التفكر وإعمال العقل ضرورة وأساساً للوصول، كان لابد من العزلة مثنى وفرادى ..

وذلك يفسّر أن التفكير لا يحدث وسط الجموع، ولا أمام الجماهير، بل بالانفراد، أو وجود صاحب صادقٍ يسعى هو الآخر لذات الهدف الذي تسعى إليه، حينها يكون وجودهُ معك تكاملاً وتنصاحاً، فيردعك أن نازعك الهوى ويحدّك عن الميلِ عن المسار المٌبتغى ..

في العزلة لا نظير أمامه تنهزم سوى نفسك.. لا منافسة مع آخرَ للظفر، لا هتافات ولا أصوات تلتبسُ بها أصوات عقلك ونداءاتُ قلبك، لا مجال للتّلهفِ لتصفيق الجماهير ولا الانصياعُ لغوائيتها، لا مجاملة أو خجل من أحد، لا يوجد من يهيجيك بالهوى عن الحق .. حينها يتحقق التفكير دون مخاتلة أو غش وخداعٍ للنفس.

درسٌ للتعامل مع أبسط الأشياء وأعمق الأشياء !

أي إننا في مواجهة حقيقة للعقل والقلب..والاحتكام إلى منطق الفطرة..

قال أديسون: " إنّ أفضلَ الأشياء تخرج من التّفكير في عزلةٍ تامّة" ..

وقد سبقهُ القرآن إلى معناها بكل وضوح في نص الآية السّابقة.  

 *** 
العزلة تفكير تعليمي، أو تعليم تفكيري .. لا أعلم أيهما أصح !

ومع ذلك مازال الكثير منّا يلبس العزلة وصاحبها ثوب الهروب من الذات قبل الهروب من المحيط أوالآخر..

والمجتمع -غالباً- يعادي فكرة أن تنشأ العقول أو يتكوّن الأفراد خارجاً أو بعيداً عن أسوار الاجتماعيّة وأحضانها والتمرّد على أفكارها .

#
هل يمثّل الحبس الانفرادي ونفي المخطئين للسجون كنوع من العقاب تفسيراً لنظرة المجتمع للوضع الطبيعي للبشر وللعزلة؟؟


إن تفسيري لكل من ينبذ العزلة نبذاً تاماً هو الانشغال بالأصوات المنبعثةِ من الخارج، وتجاهل كل الضوضاء الداخلية، فالانعزال والهدوء يشكف ذلك الضجيج المسمّى بالتفكير، ذلك السيلان المتدفق، الذي سيؤرّق كل من لم يعتد عليه ليهرب من مواجهتهِ بالانشغال بأي شيءٍ عداه.

****

# بكلمة أخرى :
أعتقد بل أوقِن أن التفّكر في خلق الله هو البداية والأساس لتعليم أسس التفكير القويم،
فابتداءً من أول مراحل التفكير السليم للوصول إلى العلم هو التخلص من الغرور المعرفي، والتفكر في عظمة الخلق ورب الخلق يجلي عن العينِ عمى الغرور ،ويذيبُ العنجهيّة والزّهو، فتصغُر الأشياء من حولك وتتقلّص أمام نفسك حتى تعلم إنك مُجرّد ذرة في هذا الوجود، مهما بلغت، وسيظلّ أقرب نجم إليك في أقاصي السماء أكبر من أن تراه وتستوعبه وتعلم حقيقته، فما بالك بالمخلوقات الأخرى؟ والعلم الذي شمل تلك المخلوقات؟ وما بالك بصاحب العلم وحده المتفرّد به الخلاّق العليم؟


أما ثانيها فهو تعليم للتفكير المنهجي، بالتغلب على العواطف والمشاعر ووزن الأمور بالقسطاس المستقيم ، فعندما يكون القيام لله، سيكون خالياً من شوائب الضلالة بعيداً عن التفكير التبعي المجتمعي الذي يسلم صحّة الأمور للأكثر اتباعاً بغض النظر عن التحقق بعقل لا تابع ولا متبوع ولا معتدٍّ بأهواء وآراء الجمُوع.

وأذكر ما قرأته في كتاب سيكولوجية الجماهير عن التأزييم والتأثير الذي يحدثه العقل الجماهيري على تفكير الأفراد وتضييق دائرة التعمق والتحليل والاستنباط عليهم.

ألا يفسّر هذا مانراه من كون الحكماء مانضجت حكمتهم إلّا في العزلة؟ وأنّ العلماء ماخرجوا بنتاج علمهم وعملهم إلا بعدما ابتعدوا لتخرج أعمالُهم من صميم النفس ؟

ومما يُلاحظ مؤيّداً لفكرة التفكير في معزل، أن القرآن في مجمل آياتهِ يخاطب ب: المؤمنين والناس موجهاً للجماعات نائياً عن التفرد إلا في التفكير ، جاء الأمر بالتّفرد ( أو التثني) ومجانبة العقل الجمعي وتأثيره وغوغائه..
 ولو لاحظنا أيضاً، فالعقل الجمعي في القرآن الكريم مذموم في أغلب المواضع :
 ولكن أكثرهم لا يعلمون، ولا يفقهون ولا يشكرون ولا يعقلون!!

***
#
الوصول للحقيقة يتطلب التفكّر بوعي ، والتفكّر لا يستقيم إلا بالانعزال، والانتزاح عن المحيط والوسط الذي نعيشُ فيه وهجرُ أفكاره ومقولاته، ليصفَى التفكير والتأمل بعيداً عن سلطة العقل الجمعي القاهر وهي عمليّة ليست بهيّنة.


 

الرؤية الضبابيّة لا تنجلي إلا "بواحدة" ..

 عظة واحدة إن تحققت استقام بها التفكير واستنار الطّريق..



اللهم اهدنا إلى نوركَ وأتمم لنا نُورنا كما أتممت هذا البدرَ بنورهِ ..


 

 12:25 ص 
الأثنين 10 يوليو

لا يوجد تعليقات

أضف تعليق

أرشيف المدوّنة

يتم التشغيل بواسطة Blogger.