تساؤلٌ انتابني منذُ مدّة، وقد عاودني مراراً ..
في كلّ مرةّ أكتبُ أستفيق وأنا في أوجِ الكتابة .. لمن أكتب؟ لتُطمس الأفكار التي تحشرُ بنفسها للحضور، وتنقطع الحروف بعد تيهان الجواب ..
ثم يسدل الستّار على مقالٍ أو تدوينة أو تأملات فكرية كادت أن تنتقِل من حياة التشرّد إلى مواطن الاستقرار.. لتعود هائمة في العقل أو تندثر كما الكثير ممن سبقَ إلى حتفه المعلوم بالنّسيان..
ومتّى دفعتُ عنيّ السؤال بإيهام نفسي أن الأهم هو ما أكتب، تكشّف لي سؤال آخر قد تدثّر بالتلكؤ ..
لمن نكتب؟!!
فإذا كانت الكتابة التي أعتبرها هي الشيء المهم في ذاته، تفتقد أهم عنصرين: القارئ والنّاقد، يُعاود التساؤل الظهور مجدداً، فلمن نكتب إذن؟
أجد أن دافع الكتابة يختزل في سؤال لمن نكتب لا لماذا نكتب .. فالأول يجيب بدوره على الثاني أما الثاني فلا يقدم أبسط جواب لسابقه ..
هذهِ الحالة تذّكرني بأولئك الذين لم يتركوا حائطاً إلا وقد خطّوا كلماتهم عليه؟
لمن كتبوا؟ ولِمن سيَظلون يكتبون؟
هناك من يشارك تجاربهُ الآخر عبر الكلمات، وفي الواقع هو يكتب لأنّه يرى أن ما يكتبه يستحق القراءة ..
وهناكَ من يكتبُ للآخر دعوة أو وعظاً أو إصلاحاً أو إيقاظاً للعقل، وهو في هذا يكتبُ لنفسه تخلّصاً من الطنين الذي لا يتوقّف ولا ينفك عن ذاته نبوعاً من المسؤولية الأخلاقية أو الدينية أو المجتمعيّة..
أما الثلة الباقية الأدنى فهي التي تكتب للآخر لتنصبّ ثمارها مباشرة في ذواتها، من تعلّق بالشهرة والمجد، أو طمعاً في الدّراهم، وهم خونة الحروف وتجّار العبارات، ويبقَى أجلّ الثلة الآخرة من يكتبُ لرغيف الخبز..
وأظن ديفيد بالدتشي قد اختصرها بما هو أكثر وضوحاً عندما قدم نصيحتهُ لكل كاتب:
وإذا قيل بأن هدفَ الكتابة يعودُ للذات وحسب، كمتنفسُ للروح وتخلص من صديد الجوف المتراكِم، وصراخ هادئ، وثرثرة صامتة.. لكن ألا ينتظرُ صاحبُ الصوت الموجّه للخواءِ عودةَ صداه؟
ماذا إن لم يرتدّ الصّوت إليه؟
لذا فأنا أرى أن الذين يستمرون في الكتابة هم من وجدوا من يحب كتاباتهم أو على الأقل من يقرؤها..
أنا لا أكتب لأعبّر عن أفكاري، لأن معظم أهمّها إن لم يكن جُلّها ما زال يتزاحمُ في خلايا عقلي ..
أنا لا أكتبُ تخلصاً من شعور، فالكتابة بمثابة توطيد للمشاعر وتحبيرٍ للرصاص وتعريض للخطوط الدقيقة ..
وبالتّالي الكتابة في حالة السعادة لا تجلب الحزن ولا الكتابةُ في حال الحزن تنبثق من بعدها أنوارُ الفرح ولا تسقي أحداً – كما يزعُم البعضُ- كأساً من نشوة!
أنا لا أكتب لأنّ لدي رسالة أوجّهها لأحد، لا تُسعد مقالاتِي أحداً، ولا أظنّها تنير عقل شخص، ولا تستدعي ضمير آخر ..
أنا لا أكتبُ لأولادي ولا للمستقبل ..
ولا تعبيراً عما أكرهُ التعبير عنه أمام الآخرين ..
ولا زيارةً للماضي ..
ولا تخليداً لي ..
ولا إثباتاً لذاتي ..
وفي كل مرّة أضع هدفاً وراء الكتابة أخفق ..
. . على ماذا تتغذى الكتابة إذن؟ . .
ماذا لو اتّبعتُ مبدأ " اكتب ما تحبّ أن تقرأ" ؟
هل أكتب ما أحب أن أقرأ؟
إذا ما كنتُ أحب أن أقرأ في الفكر والأدب والتّاريخ والأديان فهل يقدرُ قلمي الضئيل أن يكتب في مجالات ضخمة كهذه؟ وأن يغامر بالخوض في بحارها اللجيّة ؟ وهل يتمكّن من اللحاق بالركب الهائل من كُتابها وقرائها والشخوص العمالِقة فيها ولو زحفاً ؟!!
لا!
و متى ما كانَ ما أكتبُ وهجاً تنُار بهِ حياة الأمّة ..
ومتى ما كانت حروفي صوتاً للمثقلين والمبعدين ممن لا صوتَ لهم ..
ومتى ما كانت كتاباتي حضناً يحتوي هموم الآخر ويحوي معاناته ..
حينها يحقُ لي أن أكتبَ دون أن ألتفتَ بحثاً عن جواب ..
وأن أكتبَ حتى ولو كان الجوابُ لاماً نافيّة!
إن الميزة الوحيدة التي تكمنُ في غياب المُرسلِ إليه من كتاباتنا هي أن تُسقط حروفك مباشرة دون صراع ولا ترويض..
فلا أجد فعلاً أسهل من الكتابة! ولا يستصعب إلا متى ما بدأت أشكّل الحروف وألونها ..
ولا يزورنّي همُ رصفِ الحروف إلا متى ما استبدلت خانة المجهول في ترويستها لتصبحَ ( إلى: أحدٍ ما )، حينها تحلّ لعنة جواب "لمن نكتُب" بالكُلفة والتشدّق والتنميق والتلفيق أحياناً ..
ومتى ما رضيتُ بخلق الله كان أيسره وأجمله وأصدقَه..
فمن يكتبُ للآخرين يتكبّد عناءً أقلّه وضع المساحيق، إصلاحاً لرضوض الحروف، فكلام البشر يظل ناقصاً معيوباً مهما بدا راقياً عن طور الحروفِ البشريّة..
هل الكتابة نوع من أنواع استكشاف الذات؟
.
.
.
لمَ أكتبُ عن الكتابة أصلاً !!
عموماً، أظنّ أن الكتابة تختزلُ الكثيرَ مما لا يُقرأ .. ولعلّي أظل أكتب !
الأربعاء - 5 يوليو 2017
11:30 م
في كلّ مرةّ أكتبُ أستفيق وأنا في أوجِ الكتابة .. لمن أكتب؟ لتُطمس الأفكار التي تحشرُ بنفسها للحضور، وتنقطع الحروف بعد تيهان الجواب ..
ثم يسدل الستّار على مقالٍ أو تدوينة أو تأملات فكرية كادت أن تنتقِل من حياة التشرّد إلى مواطن الاستقرار.. لتعود هائمة في العقل أو تندثر كما الكثير ممن سبقَ إلى حتفه المعلوم بالنّسيان..
ومتّى دفعتُ عنيّ السؤال بإيهام نفسي أن الأهم هو ما أكتب، تكشّف لي سؤال آخر قد تدثّر بالتلكؤ ..
لمن نكتب؟!!
فإذا كانت الكتابة التي أعتبرها هي الشيء المهم في ذاته، تفتقد أهم عنصرين: القارئ والنّاقد، يُعاود التساؤل الظهور مجدداً، فلمن نكتب إذن؟
أجد أن دافع الكتابة يختزل في سؤال لمن نكتب لا لماذا نكتب .. فالأول يجيب بدوره على الثاني أما الثاني فلا يقدم أبسط جواب لسابقه ..
هذهِ الحالة تذّكرني بأولئك الذين لم يتركوا حائطاً إلا وقد خطّوا كلماتهم عليه؟
لمن كتبوا؟ ولِمن سيَظلون يكتبون؟
****
الكتابة في مُعظم صورها وأشكالها ظاهرهُا يبدو للآخر، أما بطانها فلا بدّ أن يكون بشكل أو بآخر للنفس ..هناك من يشارك تجاربهُ الآخر عبر الكلمات، وفي الواقع هو يكتب لأنّه يرى أن ما يكتبه يستحق القراءة ..
وهناكَ من يكتبُ للآخر دعوة أو وعظاً أو إصلاحاً أو إيقاظاً للعقل، وهو في هذا يكتبُ لنفسه تخلّصاً من الطنين الذي لا يتوقّف ولا ينفك عن ذاته نبوعاً من المسؤولية الأخلاقية أو الدينية أو المجتمعيّة..
أما الثلة الباقية الأدنى فهي التي تكتب للآخر لتنصبّ ثمارها مباشرة في ذواتها، من تعلّق بالشهرة والمجد، أو طمعاً في الدّراهم، وهم خونة الحروف وتجّار العبارات، ويبقَى أجلّ الثلة الآخرة من يكتبُ لرغيف الخبز..
[صاحب الفكرة يكتب .. ومن أراد أن يخلّد يكتب .. ]
وأظن ديفيد بالدتشي قد اختصرها بما هو أكثر وضوحاً عندما قدم نصيحتهُ لكل كاتب:
("اكتب لقرائك" هو تعبير ملطف لـ "اكتب ما تعتقد أن الناس ستقوم بشرائه". لا تقع في هذا الخطأ!
أكتب للشخص الذي تعرفه جيداَ.. اكتب لنفسك)
وإذا قيل بأن هدفَ الكتابة يعودُ للذات وحسب، كمتنفسُ للروح وتخلص من صديد الجوف المتراكِم، وصراخ هادئ، وثرثرة صامتة.. لكن ألا ينتظرُ صاحبُ الصوت الموجّه للخواءِ عودةَ صداه؟
ماذا إن لم يرتدّ الصّوت إليه؟
لذا فأنا أرى أن الذين يستمرون في الكتابة هم من وجدوا من يحب كتاباتهم أو على الأقل من يقرؤها..
***
ماذا عنّي أنا؟أنا لا أكتب لأعبّر عن أفكاري، لأن معظم أهمّها إن لم يكن جُلّها ما زال يتزاحمُ في خلايا عقلي ..
أنا لا أكتبُ تخلصاً من شعور، فالكتابة بمثابة توطيد للمشاعر وتحبيرٍ للرصاص وتعريض للخطوط الدقيقة ..
وبالتّالي الكتابة في حالة السعادة لا تجلب الحزن ولا الكتابةُ في حال الحزن تنبثق من بعدها أنوارُ الفرح ولا تسقي أحداً – كما يزعُم البعضُ- كأساً من نشوة!
أنا لا أكتب لأنّ لدي رسالة أوجّهها لأحد، لا تُسعد مقالاتِي أحداً، ولا أظنّها تنير عقل شخص، ولا تستدعي ضمير آخر ..
أنا لا أكتبُ لأولادي ولا للمستقبل ..
ولا تعبيراً عما أكرهُ التعبير عنه أمام الآخرين ..
ولا زيارةً للماضي ..
ولا تخليداً لي ..
ولا إثباتاً لذاتي ..
وفي كل مرّة أضع هدفاً وراء الكتابة أخفق ..
. . على ماذا تتغذى الكتابة إذن؟ . .
ماذا لو اتّبعتُ مبدأ " اكتب ما تحبّ أن تقرأ" ؟
هل أكتب ما أحب أن أقرأ؟
إذا ما كنتُ أحب أن أقرأ في الفكر والأدب والتّاريخ والأديان فهل يقدرُ قلمي الضئيل أن يكتب في مجالات ضخمة كهذه؟ وأن يغامر بالخوض في بحارها اللجيّة ؟ وهل يتمكّن من اللحاق بالركب الهائل من كُتابها وقرائها والشخوص العمالِقة فيها ولو زحفاً ؟!!
لا!
و متى ما كانَ ما أكتبُ وهجاً تنُار بهِ حياة الأمّة ..
ومتى ما كانت حروفي صوتاً للمثقلين والمبعدين ممن لا صوتَ لهم ..
ومتى ما كانت كتاباتي حضناً يحتوي هموم الآخر ويحوي معاناته ..
حينها يحقُ لي أن أكتبَ دون أن ألتفتَ بحثاً عن جواب ..
وأن أكتبَ حتى ولو كان الجوابُ لاماً نافيّة!
****
في كلّ مرة أكتبُ أقرّ في قرارة نفسي أكثر بجهلي وقلّة علمي ..
****
إن الميزة الوحيدة التي تكمنُ في غياب المُرسلِ إليه من كتاباتنا هي أن تُسقط حروفك مباشرة دون صراع ولا ترويض..
فلا أجد فعلاً أسهل من الكتابة! ولا يستصعب إلا متى ما بدأت أشكّل الحروف وألونها ..
ولا يزورنّي همُ رصفِ الحروف إلا متى ما استبدلت خانة المجهول في ترويستها لتصبحَ ( إلى: أحدٍ ما )، حينها تحلّ لعنة جواب "لمن نكتُب" بالكُلفة والتشدّق والتنميق والتلفيق أحياناً ..
ومتى ما رضيتُ بخلق الله كان أيسره وأجمله وأصدقَه..
فمن يكتبُ للآخرين يتكبّد عناءً أقلّه وضع المساحيق، إصلاحاً لرضوض الحروف، فكلام البشر يظل ناقصاً معيوباً مهما بدا راقياً عن طور الحروفِ البشريّة..
****
#تساؤل: هل الكتابة نوع من أنواع استكشاف الذات؟
.
.
.
لمَ أكتبُ عن الكتابة أصلاً !!
عموماً، أظنّ أن الكتابة تختزلُ الكثيرَ مما لا يُقرأ .. ولعلّي أظل أكتب !
الأربعاء - 5 يوليو 2017
11:30 م
لا يوجد تعليقات
أضف تعليق